بحث حول الأخلاق والمنافع المادية

الأخلاق والمنافع المادية

يحتاج الإنسان في حياته الإنسانية ـ الفردية والاجتماعية ـ إلى مجموعة من الأهداف اللامادية. ونحن هنا لن نتعرض إلى جانب الضرورة الفردية في حياة الفرد للأهداف والقيم المعنوية وغير المادية، لأننا لا نرى فعلاً حاجة لذلك، وربما يتوضح الحال فيها من خلال بحوثنا الاجتماعية.

ومن المسلم به أن أية مدرسة إجتماعية تحتاج إلى وجود مجموعة من الأهداف المشتركة بين جميع الأفراد، ذلك أن هذه الأهداف المشتركة إن عدمت فإن الحياة الاجتماعية بمفهومها الواقعي ـ أي الحياة المنظمة ـ تعود غير ممكنة. فالحياة الاجتماعية معناها التعاون. والتعاون في مجال الأهداف المشتركة ممكن. أما إذا لم يوجد في البين هدف مشترك فإن هذا الإمكان ينتفي، وإن الهدف المشترك يعم الأهداف المادية والمعنوية.

فمن الممكن أن يكون الهدف المشترك لجميع الأفراد هدفاً مادياً كمثل الشركات التجارية والصناعية للأفراد المشتركين في تأسيسها، حيث يجتمع عدد من الرأسماليين ويؤسسون شركة تجارية أو صناعية، أو يتفق صاحب رأسمال مع أصحاب سواعد عاملة، فالعمل والساعد من أحدهما، ورأس المال من الآخر ثم يأتي العمل المشترك.

إلا أن المجتمع الإنساني لا يمكن أن يُشكل تماماً كما تشكل الشركات، بمعنى أنه لا يمكن أن يكون أساس الحياة الاجتماعية شركة كبرى قائمة على المصالح المادية لا غير. هذا ما نراه نحن بالطبع. وإلاّ فإن البعض يفترض هذا التصور. وهذا الفيلسوف برتراند راسل يبني أخلاقه على هذا الأساس!! لأنه لا يرى للأخلاق أساساً اجتماعياً سوى المنافع الفردية. إنه يقول إن أخلاق المجتمع في الواقع نوع من التعاقد يقوم به الأفراد. ذلك لأن الأفراد جميعاً يدركون أن الحفاظ الأفضل على منافعهم يقتضي أن يراعي كل منهم حقوق الآخرين وجودهم.

ويضرب لذلك مثالاً فيقول: "أنا ـ بحسب الطبع ـ أميل لأن امتلك بقرة جاري، ولكني ملتفت إلى أن هذا العمل إذا تحقق فإن جاري سوف يردُّ عليه ويأخذ بقرتي، وهكذا يقوم الجار الآخر بنفس العمل، وحينئذ ـ فبدلاً من الانتفاع الأكبر ـ سوف أصاب بضرر أكبر، وحينئذ أقول! إن المصلحة تقتضي أن أحترم حقك واعتبر بقرتك ملكاً لك، لتكون بقرتي ملكاً لي". وهكذا يعتبر (راسل) الحفاظ على المنافع الفردية أساساً للأخلاق الاجتماعية. وفي الواقع فهو يرى أن أساس الاحترام للحقوق الفردية هو أن يحترم عدة من الشركاء حقوق كل فرد منهم لأنهم يرون أن مصلحة الفرد تكمن في التعاون.

ونحن نقول إن العلاقة بين اللصوص تقوم على هذا الأساس، فإن عدداً من اللصوص عندما يتفقون على السرقة ويقطعون الطريق نراهم يقسمون النتائج بالسوية والعدالة بينهم، ويراعي بعضهم البعض لأنهم يعلمون أن كل فرد لوحده لا يستطيع القيام بهذا العمل، ولأن كل فرد يحتاج للآخرين فإنه يحترم حقوقهم. ولهذا كنا نقول دائماً إن فلسفة (راسل) تخالف شعاره، فلقد كان شعاره المحبة الإنسانية في حين تعمل فلسفته على اقتلاع جذور الإنسانية، ذلك لأنه كان يرى الأخلاق الاجتماعية قائمة على أساس المنافع.

هشاشة المطلق المادي

على أن هذه الذي يلتزم بها الفرد استناداً إلى لحاظ منفعته في التعاون مع الآخرين ومخاوفه من ردود فعلهم، إنما تكون فاعلة حين تكون العلاقات بين الأفراد متكافئة من حيث القدرة والقوة، ما يجعل كل فرد يخاف الآخرين ويرعى حقوقهم، أما عندما يصل أحدهم إلى حدٍ يطمئن معه تماماً إلى أن أياً من هؤلاء المتعاونين معه لا يستطيع أن يقاومه لضعفه فلا داعي إذن يدعوه لمراعاة الجوانب الأخلاقية. ولماذا يفعل ذلك؟

فلنفترض نيكسون وبريجينيف (يلاحظ أن الحديث كان في حالة كون نيكسون رئيساً للولايات المتحدة الأميركية) يقف بعضهما في قبال البعض، ولأنهما متساويان في القدرة والقوة فإن كلا منهما يحسب حساب الآخر، ويرى أن منفعته تكمن في مراعاة مصالح الآخر، ولكنه في قبال أي شعب ضعيف ليس لديه أي داع للسلوك الأخلاقي،.لذا فإن اعتراض (راسل) على أمريكا في حربها ضد فيتنام مثلاً لا معنى له، ولا معنى لوصفه بأنه غير إنساني، إذ ماذا يعني قوله غير إنساني؟ وما الملزم لأمريكا أن لا تحارب ولا تعتدي ما دامت الأخلاق، في مفهوم "راسل"، تستند إلى أسس مادية ومصلحية.

وعلى أي حال فهذا منطق مطروح، وطبيعي أنه منطق سخيف ذلك لأنه يجيز أساساً للقوي أن يستغل قوته، غاية الأمر أنه يقول للضعيف كن قوياً لكيلا يستطيع القوي أن يظلمك وهذا كلام صحيح، ولكنه لا يبقي للأخلاق موضعاً، لأنه لا يستطيع أن يأمر القوي قائلاً له: مع إنك تعلم أن الضعيف لا يستطيع أن يرد عليك ولكن لا تظلم. فإن أمره هذا بلا مبرر. فلماذا لا يفعل، مع إن هذا العمل في مثل هذه المدرسة مجاز قطعاً باعتبار أنها قائمة على المصالح والمنافع.

الملكية سبب الشرور:

ومع ضعف هذا المنطق يجب الاتجاه نحو شيء آخر، ويطرح في هذا المجال رأي آخر، ولكن على أساس الأهداف المادية نفسها المشتركة. ولكن للتخلص من المفاسد يطرح سبيلاً آخر فيقول:

إن علينا أن نبحث عن دوافع اعتداء الأفراد على غيرهم ثم نعمل على محو هذه الدوافع، وليس من الضروري أن تكون تلك أسس تلك الدوافع وجدانية أو نفسية، أو نتيجة إتباع مدرسة خاصة وتربية معينة ، ولتوضيح مقولته، يقول: "لنفترض أنكم اعترفتم بعدم وجود مانع ورادع للقوي حين يصمم على ظلم الضعيف ولكننا لمعالجة ذلك يجب أن نبني المجتمع على النحو الذي لا يتضمن وجود قوي وضعيف، ما يتطلب أن نكتشف في أي شيء يكمن أساس القوة والضعف؟ فإذا استطعنا القضاء جذرياً على هذا الأساس كان أفراد المجتمع على حد سواء، وحينئذ نجدهم ـ بالطبع ـ يمتلكون الاحترام المتبادل لحقوق الأفراد لأنهم متساوون.

ويعتبر هذا الاتجاه أن هذا الأساس ليس سوى الملكية، ذلك التفاوت بين البشر في القوى والقدرات السياسية والاجتماعية وغيرها تنبع منه، ما يتطلب القضاء على الملكية ليعود الأفراد جميعاً بمستوى واحد، وبقدرة واحدة، وبذلك يمكن استئصال مقويات اعتداء الناس على غيرهم، وتكون بذلك للجميع أهداف مشتركة ـ وهي الحياة الماديةـ، ويعود المجتمع يشكل شركة واقعية لا يستطيع أي من المشتركين فيها أن يتحكم بالأفراد الآخرين، لأن وسيلة الضغط والشقاء هي الملكية وقد أزلناها.

والماركسية تقريباً تقول بمثل هذا الرأي. وهذه المدرسة لا تعتمد مطلقاً على المسائل المعنوية، ولا تتحدث عن الفطرة والوجدان الأخلاقي وأمثال ذلك. إنها ترى فقط الشيء الذي تعتقد أنه سر الشرور والشقاء، وأنماط الظلم المختلفة والتعدي، وهو الملكية. فإذا قضينا على الملكية فقد قضينا على وسيلة الإجرام والتجني، وإذا ما انتفت الملكية الفردية وحلت محلها الملكية الاجتماعية، وراح كل فرد يعمل بقدر ما يستطيع، ويأخذ من المجتمع بقدر ما يحتاج؛ فسوف يعم المجتمع الصفاء والعدل والأخلاق الحسنة، وتنمحي أسباب العداء والنفور والعقد، ويعيش الناس كأخوة متساوين.

وهكذا، لا يلجأ هذا الاتجاه للمعنويات؛ ويعمل على أن يدير المجتمع بلا إعطاء أي دور للقيم المعنوية، لكن هذه المعالجة ناقصة وباطلة، وذلك لأن الواقع العملي أظهر أن المجتمعات التي ألغت الملكية لم ينعدم فيها الظلم والانحراف، ولو كان ما يقولون صحيحاً لما عدنا نرى أي فساد فيها بعد وصولها للحياة الاشتراكية، في حين أننا نجد هذه المجتمعات الشيوعية مبتلاة بين الحين والحين بأساليب التصفية وغير ذلك... إن سبب ذلك يرجع إلى أن الملكية ليست العامل الوحيد للحصول على الامتيازات.

ويتوضح ذلك بملاحظة ما يلي:

أولاً: أن الامتيازات ليست كلها امتيازات مالية فهناك امتيازات لا ترتبط بالمال، فالمرأة الجميلة مثلاً لها امتيازها على النساء الأخريات وهو امتياز حياتي لا ربط له بالمال، بمعنى أنه حتى لو كانت الملكية اشتراكية فإن هذا الامتياز باقٍ على حاله، والأهم من كل ذلك، المقامات، فقيمة المقام لدى البشر أعلى من قيمة المال وأكبر، فقد كان فورد أوروكفلر يسعى وهو أغنى أغنياء العالم، يعيش وحلم رئاسة الجمهورية يؤرقه ويكوي قلبه. وهناك الكثيرون ممن يضحون بثروتهم ـ غالباً ـ لكي يصلوا إلى الشهرة والفخر والرئاسة والقدرة وغير ذلك. وذلك أمر له قيمته عند الإنسان حين يحبه الآخرين يخضعون له إما من خلال إيمانهم وحبهم وتعلقهم به، أو خوفاً منه ومن سطوته.

فمثلاً ألا يأمل الأفراد أن يكون أحدهم كالإمام البروجردي ـ (وهو أحد كبار العلماء المحبوبين) والذي يحلم الكثيرون برؤيته، ويقبلون يده بكل خشوع، ويعطونه أموالهم، ويفتخرون بجوابه على سلامهم، أليست هذه قيمة للإنسان؟ وهل أن كل القيم تأتي من المال؟

وعلى أي حال فمثل هذه الأمور لها قيمتها لدى البشر، ولو لم تكن كذلك لما ضحى الإنسان في سبيلها بكل شيء. وهذه أمور ليست بغير ذات بال، وانطلاقاً من ذلك فإن جذور الاعتداء على حقوق الآخرين، وسر الامتيازات، ليست المال والثروة فحسب، بل ثمة أشياء أخرى تشكل مصدراً لذلك وهي لا تقبل الاشتراك ليجعلوها اشتراكية.

ثانياً: إذا كان للامتيازات مصادر أخرى، فإن أصحابها بدورهم سيحصلون على نصيب أكبر من المال والثروة، وتكون فرصتّهم في الحصول على هذه الامتيازات أكبر بلا ريب. ففي روسيا مثلاً هل تساوى خروشوف والفلاح الروسي من حيث المال والثروة؟

فليس الامتياز الوحيد هو المال والثروة لتحل المشكلة عبر الاشتراكية في الثروة، كما أنه ليست استفادة الأفراد من الثروة الاشتراكية على حد واحد مع اختلاف مقاماتهم ومواقعهم، وبالتالي فإذا ركزنا على أموال الدولة ـ وهي من الأموال العامة وليست ضمن الملكية الفردية ـ فهل يستفيد الأفراد منها بشكل واحد؟ كلا. فالمدير العام ـ مثلاً ـ يستفيد من الخزينة العامة بعناوين مختلفة، الأمر الذي لا يمكن لغيره أن يفعله.

علاوة على هذا فإن هناك أمراً لا يخلو من أهمية بل هو الأهم مما سبق، فالمجتمع الاشتراكي يحتاج إلى أنماط من الإيثار والتضحية وغض النظر عن المنافع المادية. كأن يكون أحدهم جندياً عليه الدخول إلى ميدان الحرب والتضحية بالنفس، وفي مثل هذه الحال لا معنى لتحكيم المنافع المشتركة، وإنما يجب الاعتماد على المبادئ والعواطف وغيرها ليضحي الجندي بنفسه في سبيلها. وهنا نجد أشد المبادئ مادية في حاجة ماسة للجوء إلى نوع من المعنويات ولو على أساس جعل المسلك نفسه معبوداً ومحبوباً وقيماً يضحي الفرد لأجله. وهذا نوع من المعنويات.

المعنويات والمذهب المادي:

إن مسلكاً يبني كل شيء على أساس الاشتراك في المنافع المادية والحفاظ عليها لا يمكنه أن يكون مسلكاً جامعاً، بل لا يمكنه ـ أساساً ـ أن يكون مذهباً عملياً، وعلى هذا التصور وهو عدم استغناء أي مجتمع كان عن مجموعة من الأهداف المعنوية أو (القيم المعنوية) ـ كما يعبر عنها حديثاً ـ يجب أن نعرف حقيقة هذه القيم المعنوية، هل هي أمور واقعية أو هي مجموعة من التلقينات والخداع للأفراد السذج، تماماً كما يقال بالنسبة للوطن والشعب وأمثال ذلك حيث يطرحون هذه الشعارات الفارغة لخداع السذج البسطاء؟

نعم يجب أن نعرف حقيقة هذه القيم المعنوية التي يعطيها الإنسان قيماً عظمى إلى الحد الذي يضحي معه بكل منافعه المادية في سبيلها. وهنا يبرز هذا السؤال: ما هي (القيمة)؟

إن الإنسان يقوم بأعمال إرادية، ولكل عمل اختياري هدف، وعندما يستهدف الإنسان شيئاً فإن ذلك الشيء له أهميته وقيمته لديه بلا ريب، سواء كان هذا الهدف مادياً أو معنوياً بمعنى أن للهدف جاذبية للطبيعة الإنسانية، وإلا فمن المحال أن يتحرك ويسعى الإنسان نحو هدف لا يجذبه إليه. فقد قيل أن العبث المطلق لغو، واللغو المطلق محال صدوره من الإنسان، وكل ما نسميه عبثاً فقد يكون من حيث المبدأ الفكري والعقلي عبثاً ولكنه من حيث مبدإٍ آخر يصدر عنه ليس عبثاً. فقوة الخيال ـ مثلاً ـ محرك نحو هدف ما. إن قوة الخيال تصل إلى هدفها بينما تعجز القوة العاقلة عن ذلك.

لا ريب في أنه يكمن في الأمور المادية شيء نافع لحياتي. ولما كنت أحب حياتي هذه حباً غريزياً وبالطبع؛ فإني أتحرك باتجاهه: لأن له قيمة لدي، وإن كانوا لم يصطلحوا بعد على إعطاء قيمة للأمور المادية، ولكنا نقصد القيمة بمعناها الأعم من الأمور المادية. فالطبيب له قيمة لدي لأنه يساعدني في الخلاص من المرض، والدواء له قيمته، والغذاء كذلك لأنه يحل محل ما يفقده الجسم من خلاياه، كما الرياضة، فباعتبارها توجب سلامة الجسم فهي ذات قيمة بعد هذا نصل إلى الأمور المعنوية التي لها ما يوازيها من الماديات في الخارج. فما هو الحال فيها؟. إن عمل الخير ومساعدة الآخرين لا تكون فيه للإنسان منفعة مادية، ولكنه عموماً يشكل خدمة للمجتمع والجيل الآتي فما هو الموقف منه؟ وعلى سبيل المثال يشتغل إنسان ما في مؤسسة ثقافية، ويبذل جهوداً جبارة لكي يخدم الجيل الآتي من هذا الشعب، وبشكل لا يعود على شخصه بأي منفعة، بل له ضرر أيضاً لأنه يستهلك من وقته وعمله ويمنعه من الكسب الأكثر، فكيف ندرس هذه الحالة؟

إن مسألة المعنويات مسألة هامة في حياة الإنسان، وهنا يطرح هذا السؤال نفسه: هل أن الإيمان بالأمور المعنوية ينحصر بالإيمان بالله؟ وهل أن الإيمان بالله يقع في أول قائمة الإيمان بالمعنويات؟ أو أنه لا مانع من أن لا يكون في البين إيمان بالله؟ في حين تتحكم بالحياة الإنسانية مجموعة من القيم المعنوية؟

هناك جملة وردت في كتاب (أصالة الإنسانية) لسارتر نقلاً عن داستويوفسكي الكاتب الروسي المعروف إذ يقول: "إن لم يكن هناك واجب الوجود فكل شيء جائز" بمعنى أننا إذ نقسم الأعمال إلى حسن وسيء فنقول: هذا فعل حسن يجب فعله، وهذا قبيح يجب تركه، وإذ تفرض الجوانب المعنوية ـ طبيعة ـ أن نصدق وأن لا نكذب، وأن لا نخون المجتمع بل نخدمه، فهذا كله تابع للاعتقاد بالله وواجب الوجود، فإذا لم يكن هناك واجب الوجود فكل شيء جائز، أي أن كل شيء مباح لنا ولا معنى للمنع والردع، وما ينبغي وما لا ينبغي فكلها تنتفي من قاموس الحياة. فهل أن الأمر كذلك؟

هناك خصلة حسنة في فعال الماركسيين، وهي أنهم لا يسعون خلق المسائل المعنوية ولا يدَّعونها ـ لأنهم ماديون ـ ولا يتحدثون عن الإنسانية، وإذا ذكروا الإنسانية السالمة وضحوا انهم يقصدون المجتمع اللاطبقي، لأن الإنسان في نظرهم إما سالم أو ذو عيب، فالناس لأجل الملكية والتفاوت الطبقي يفسدون, فإذا رفعنا الملكية عاد الناس إلى حالتهم الأولى، ولا كمال آخر للإنسان، ولا مجال آخر للرقي والتكامل في المجال المعنوي.

فيكفي الإنسان أن لا يفسد بواسطة الملكية، أن لا يكون عابداً للمال. ولكن المذاهب المادية الحديثة نجدها مادية من جهة وتدَّعي الإنسانية من جهة أخرى، فمثلاً سارتر وغيره يبني مذهبه على الأمور المعنوية ويعتمد على مبدأ (المسؤولية) فكيف يكون ذلك؟ فيرون كل فرد في هذا العالم مسؤولاً عن نفسه وعن الآخرين. فلنلاحظ هذه المسؤولية: ما هي؟ وما معناها؟.

إن المسؤولية ليست أمراً مادياً، إنها أمرٌ معنوي بالمعنى غير المادي. ومن الطبيعي أن نقول: أن يصبح الشخص موضعاً للتساؤل يتطلب البحث عن شخصية المحاسب ومن هو؟ يجب أن يجيب الماديون على مثل هذا السؤال. فيقولون مثلاً إنّ للإنسان وجداناً يحاسبه مثل النفس اللوامة في المنطق الديني. وفي الواقع يمتلك الإنسان شخصيتين، إحداهما حيوانية والأخرى إنسانية ملكوتية. فإذا قام بفعل قبيح، عاتبت الشخصية الثانية الشخصية الأولى، ولكنهم ينكرون مثل هذا الوجدان، فإذا لم يكن شيء من هذا القبيل فأين هو مركز المسؤولية؟ وبغض النظر عن مركز المسؤولية، فإذا لم يستطيعوا إثباتها فإنهم يقولون بها على أيّ حال، وكما قلنا فإن المسؤولية أمرٌ معنوي: فأنا مسؤول أمام أفراد البشرية، وأنا مسؤول أمام الجيل الآتي وأمثال ذلك، ماذا يعني؟

إنهم يسلكون مسلكاً مادياً ومع ذلك فهم يسعون لطرح الإنسانية والمعنوية للإنسان، ويلزمونه بهذه المعنوية. كل ذلك بغض النظر عن الإيمان بالله، بل نجدهم يقولون: إذا آمنا بالله ذابت كل هذه المعنويات، ذلك أن سرها جميعاً هو حرية الإنسان، فإذا آمنا بالله انتفت الحرية، فإذا لم تكن هناك حرية فلا معنى للاختيار، وبالتالي فلا مجال للمسؤولية ولأنه لا يوجد في البين إله، ولكون الإنسان حراً فالمسؤولية غير موجودة في حياة الإنسان.

وهكذا نجدهم يسعون للاعتقاد بنوع من المعنويات المسلكية لا الفلسفية، رغم أن مذهبهم مادي، هل ترى ذلك ممكناً أم لا، قد يقول أحد: ما المانع من أن لا نعتقد بالله مع الإيمان بنوع من المعنوية؟ ذلك لأن جذور المعنوية متوفرة في الوجدان الإنساني، بغض النظر عن منشأ ذلك سواء كان الصدفة أو شيئاً آخر، وعلى أي حال فهي موجودة في البناء الإنساني، فهي ليست إلهية، ولكنها موجودة، بمعنى أن الإنسان مهما كان يملك من وجدان فهو يلتذ بمجموعة من الأعمال الحسنة، وينفر من مجموعة من الأعمال القبيحة، ولذا فإن الإنسان قد يؤدي العمل لا لأجل منافعه المادية وإنما لأنه يلتذ به، وعليه فلذّات الإنسان لا تنحصر باللذات المادية، بل لديه لذات معنوية، فهو يلتذ للعلم رغم أنه لا يعود عليه بشيء.. يلتذ لمعرفة التاريخ والإطلاع على أحوال الماضين، أو الجغرافية أو رؤية أعماق البحار، رغم أنه يعلم ـ على الفرض ـ أن هذه المعلومات لا تعود عليه بشيء من الفائدة ولا تضيف إلى دخله المادي شيئاً، ولكنه يلتذ بهذه المعرفة إنه خلق ـ على أي حال ـ بشكل يلتذ عند المعرفة.

كما أنه خلق بشكل يلتذ معه بالأمور الأخلاقية حتى ولو لم تعد عليه بأية منفعة مادية، لأن الإنسان يقوم بالعمل ليلتذ، منتهى الأمر أن هناك لذة مادية وأخرى معنوية، وعلى ضوء ذلك، فما المانع من أن نقيم المعنوية على أساس الوجدان الإنساني الملتذ بالأعمال الأخلاقية حتى لو لم يكن هناك إله في البين. فالإنسان ـ مثلاً ـ يلتذ بالجمال دون أن تكون له أية منفعة مادية تعود على جسمه بالنفع. ونحن نجد الإنسان يلتذ بمنظر باقات الزهور التي يزين بها منزله ولها قيمتها لديه، في حين أن المنظر بنفسه ليس مادة يصل إليها الإنسان ولا تعود على الجسم بأية منفعة، إلا أنه يعود على النفس الإنسانية بالفائدة والمتعة. فالإنسان إذن ينتفع بها ويلتذ. وهكذا لو كان هناك طائر شجي الألحان يملأ البستان نغماً فإن له قيمته لدى الإنسان ويلتذ به في حين أنه لا النغم أمرٌ مادي يصل إليه ولا ينتفع جسمه به وإن كانت نفسه تلتذ به.

اعتراضات قوية

في الواقع أن هذا الكلام ـ إلى حد ما ـ صحيح ولكن يواجه باعتراضين:

الأول: إن مثل هذه الأنماط من الوجدانيات ليست قوية إلى الحد الذي يمكن أن يبنى على أساس منه مذهب يستطيع أن يصل برنامجه التربوي إلى الحد الذي يضحي فيه الإنسان بمنافعه لصالح العالم، أو إلى المستوى الذي يضحي الإنسان فيه بنفسه في سبيل ذلك. لأنه لا يمتلك هذا المستوى من التأثير.

وفي الواقع أن الإنسان إذا كان يؤدي عملاً للذة فقط ولو للذة المعنوية فإنه يقف عند حد الموت؛ وقد يصل إلى حد الرضوخ للسجون المتوالية فيصبح الأمر لديه عادةً وتفنناً، ولكن هذا النمط لا يستطيع أن يستجيب إلى حاجة بشرية عميقة وهي التي يحتاجها المذهب التربوي لكي يدفع الأفراد المعتقدين به إلى (التضحية) و(الفداء)، تماماً كما لا نجد في العالم إنساناً يضحي بنفسه في سبيل بقاء باقات الزهور في بيته، ذلك أنه يريد الزهور ليلتذ بها لا العكس. وهكذا بالنسبة للتعاون الذي يبديه الآخرين. فإذا افترضنا أنه يلتذ بهذا العمل ولذا يقوم به، وولاؤه لمثل هذا العمل هو بمقدار التذاذه به فإنه سوف لن يقدم على التضحية بنفسه في سبيله لأن ذلك لا معنى له.

فصحيح إذن أن الإنسان يلتذ في عمق وجدانه بالأعمال العامة والحسنة، والقرآن الكريم نفسه يقبل هذا الوجدان، ولكن هذا المقدار من الوجدان لا يكفي لأن يشكل أساساً وخميرة لمذهب ما، فحاجة المذهب للإيمان بالمعنوية هي بمستوىً أعلى بكثير وأسمى. فإذا قال أحدهم مثلاً: إن الحسين انطلق إلى كربلاء وضحى بنفسه وشبابه وقدم نساءه وأطفاله للأسر لأن وجدانه كان يلتذ بالخدمة الذي يقدمها للناس" كان هذا الكلام باطلاً، ذلك أن اللذة تعود في النهاية لنفس الإنسان وبالتالي فهي لا تنسجم مع فقدان الذات.

الثاني: إن لم يكن هناك إله في العالم، ولم يكن هناك أي هدف لهذا النظام، وإن لم تكن هناك أية رابطة باطنية بين الأشياء والأفراد فبالإمكان أن يقال إن هذه اللذة المعنوية التي عُجنّا بها هي مجرد غلطة في الطبيعة، فهي أمر موجود فينا لكنه اشتباه طبيعي محض، باعتبارها لا تلبي أية حاجة فعلية وخصوصاً أن أية لذة من اللذات المادية إنما هي لأجل تلبية الحاجة الطبيعية، فعلى أي حال كل لذة تنبع من حاجة. فإذا كنا نلتذ بطعام فلأن طبيعتنا تحتاج إليه، وإذا لم نكن نلتذ لم نقدم على الأكل، وإننا نلتذ بشرب الماء لأن طبيعتنا تحتاجه، وهكذا نلتذ بالنوم فكل لذة هي على أساس حاجة واقعية، وكذلك كل ألم يقوم على أساس مانع طبيعي.

ففلسفة اللذائذ المادية واضحة، وهي أعمال حكيمة في الطبيعة، ولكن ما هو الحال بالنسبة للذائذ المعنوية؟

ولكن لماذا ألتذ من شبع طفل يتيم وما علاقة ذلك بي، إنه يلتذ فلماذا ألتذ أنا؟ إن هذا الالتذاذ شيء شبيه بالخواء واللغو، بمعنى أنه لا حكمة وعلة لذلك في وجودي أنا، فهي بلا دليل. على أننا إذا قلنا بوجود نوع من الروابط والعلائق في نظام العالم والخلقة، وإن هذا العالم قائم على أساس من الحكمة، هي التي جعلت بيني وبين الأفراد الآخرين علاقة في أصل الخليقة، وبمقتضاها كنا جميعاً أعضاء لجسم واحد. إذا قلنا بذلك، كان مفهوماً هذا الشعور باللذة لأنها تلبي حاجة عميقة في وجودي الإنساني ولذا فأنا حين أسعى نحو هذه اللذة لا يكون سعيي خلق أمر باطل هراء وإنما أسعى على أساس مبدأ متقن في الخلقة. أما إذا كانت هذه اللذة بالصدفة، كأن أكون قد خلقت صدفة بنحو يجعلني ألتذ من إيصال الخير للآخرين، حتى ولو لم تكن هناك أية فلسفة من هذا الالتذاذ، فإن الأمر بالتالي ينتهي إلى الخواء واللغو.

إن الشيء الذي يكمن فيه هدفي والذي يقوم على أساس من لذة غرست خطأ في أعماقي فهي بلا هدف، لا يمكنه أن يخلص حياتي من العبثية، فنحن إذن في نفس الوقت الذي نقول بالوجدان الأخلاقي، وإن الإنسان يلتذ بالفطرة من العمل الحسن وينفر من العمل القبيح، فإننا نؤمن بأنه لو لم يكن في البين إله وخلقه هادفة فإن عملنا سوف لن يتخلص من العبث مطلقاً.

إنني أعتقد أن الوجدان خلقه الله من أعماقنا لكي نقوم بأعمال هادفة. إنني أنا وهذا اليتيم وهذه العجوز ـ أعضاء في متن الخلقة لجسم واحد، وأجزاء لخارطة واحدة، وأطروحة معينة نتبع مشيئة أزلية واحدة، ونسير نحو حكمة واحدة. فنحن إذن نؤمن هدف الخلقة وهدف خالق الخلقة، وعندئذ فإن هذا الأمر المعنوي ليس عبثاً وإنما هو حقيقي واقعي. وعلى هذا فإن أي مذهب أو نظام فكري واجتماعي محتاج إلى مجموعة من المثل المعنوية. ولهذا نقول إن الأيديولوجية بحاجة إلى القيم فوق المادية، وإن هذه القيم يجب أن تكون أقوى إذا امتلكت نوعاً من القدسية. وعلاقة التقديس في أمر ما هو أن يراه الإنسان أمراً يضحي لأجله بنفسه فداءً له.

لا معنويات بدون خالق

فكل مذهب يحتاج إلى مثل هذه الأهداف والقيم المعنوية، ولا يكفي مجرد الاشتراك في المنافع، ولا يمكن إقامة مذهب إنساني جامع على أساسها، كما تقوم الماركسية على مثل هذا الأساس،

وكذلك فإنه لا يمكن ـ بدون الله ـ أن توجد مثل هذه المثل القيمة للإنسان.

إن المذهب الذي يدعي على لسان الشاعر:

إن السحاب والضباب والشموس والقمر تسعى لكي تأكل خبزاً ضمن وعي وبصر.

ويقول ـ كما جاء في القرآن الكريم: {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض}

إن مثل هذا المذهب يلقي عبء المسؤولية على كل ذرة، ويرى أن كل شيء في الخلقة خلق لسبيل خاص، وكلٌ مسؤول عن عمل. فالشمس لها عمل ومسؤولية، وهي تقوم بعملها، والسحاب المتحرك يقوم بأداء واجبه، فحركته تعني القيام بمسؤوليته، وحركة الهواء تعني القيام بواجب، وكذلك أن تقوم الشجرة بالإثمار، ومن الطبيعي أن هذا المذهب يجعل الإنسان موجوداً مسؤولاً في بحرٍ من المسؤولية.

أما المذهب العاري من الهدف والغاية، ولا يعتقد لأي موجود بمسؤولية، وعندما يصل للإنسان فقط يجعل له وظيفةً وواجباً بحيث يشعر الإنسان واقعاً بأنه مسؤول... مسؤول عن نفسه والآخرين... وعليه أن يضحي في سبيل هذه المسؤوليات والمعنويات، هذا المذهب سخيف بلا ريب.
وعلى هذا فلا يمكن لأي مذهب ـ دون الاعتقاد بحكمة الخلقة ـ أن يصل إلى الإيمان بالقيم المعنوية. في حين أن مثل هذه القيم هي من ضروريات أية حركة يريد إيجادها. إن الهدف يعني منتهى الأماني، بمعنى أن لا تكون الحياة الفردية منتهى أمله. وإنما هو الأعمال الكبرى، فهذا رجل يتزوج حديثاً ويعمل على تشكيل عشه العائلي يأتي إلى الرسول الأكرم(ص) ويخبره بأنه يتمنى الشهادة ويطلب من الرسول أن يدعو الله ليرزقه الشهادة. إن المذهب يمنح الإنسان شأواً بعيداً من الأهداف بحيث يسعى نحوها ويطلب الشهادة في سبيلها. ومثل هذه الأهداف الكبرى لا يمكن أن تنسجم مع هذه التحليلات السخيفة، فلا يمكن أن يصنع الإنسان هكذا. فبدون المثل العليا لا يستحق أيُّ مذهب تربوي أن يطلق عليه اسم (المذهب

0 التعليقات: